فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالًا، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبرًا باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد، ذكر حالها في وصف صالح للواحد، وجعله مؤنثًا إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام: {والطير} أي سخرناها له حال كونها {محشورة} أي مجموعة إليه كرهًا من كل جانب دفعة واحدة- بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطًا وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وفي يد بعض أصحابه، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال: «اسكن أحد» فسكن، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضى الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به، فلما جاء الليل أرسل الله سيلًا فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر {كل} أي كل واحد من الجبال والطير {له أواب} أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير، وجعل الخبر مفردًا إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته، والإفراد أيضًا يفيد الحكم على كل فرد، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء- قاله القشيري، ففي هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالًا، وعلوًا ورفعة وكمالًا إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة، أو الطير نفرة وطيشًا وخفة، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون.
ولما كان هذا دالًا على الملك من حيث إنه التصرف في الأشياء العظيمة قسرًا، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتًا لنبوته وتعظيمًا لملكه، قال: {وشددنا} أي بما لنا من العظمة {ملكه} بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك، قال ابن عباس- رضى الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطانًا.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: {وآتيناه} أي بعظمتنا {الحكمة} أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم.
ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: {وفصل الخطاب} أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبسًا يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزًا وهيبة ووقارًا يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء: {عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} أمره الله بالصبر على سفاهتهم، فقال: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} فإن قيل: أي تعلق بين قوله: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} وبيّن قوله: {واذكر عَبْدَنَا داود}؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول: كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جراءتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفًا يزداد الضد الآخر نقصانًا والثاني: كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك والثالث: أن للناس في قصة داود قولين: منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر، وإنما دخلا عليه لقصد قتله فخاف منهما داود، ومع ذلك لم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمدًا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس: أن قريشًا إنما كذبوا محمدًا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس: أن قوله تعالى: {اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا داود} غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولًا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذٍ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: {كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29] واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
فالقصة الأولى: قصة داود:
واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول: تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني: شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول: وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول: قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا داود} فأمر محمدًا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به في مكارم الأخلاق والثاني: أنه قال في حقه: {عَبْدَنَا داود} فوصفه بكونه عبدًا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم، وذلك غاية التشريف، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدًا عليه السلام ليلة المعراج قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلًا على علو درجته أيضًا، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث: قوله: {ذَا الأيد} أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحترازعن المعاصي، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه {والأيد} المذكور هاهنا كالقوة المذكورة في قوله: {يا يحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح مِن كُلّ شيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شيء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] وقوله تعالى: {وأيدناه بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] وقال: {والسماء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47] وعن قتادة أعطى قوة في العبادة وفقهًا في الدين، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر الرابع: قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي أن داود كان رجاعًا في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب الخامس: قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق} ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ والطير} [سبأ: 10] وفيه مباحث:
البحث الأول:
وفيه وجوه الأول: أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلًا وقدرة ومنطقًا وحينئذٍ صار الجبل مسبحًا لله تعالى ونظيره قوله تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلًا وفهمًا، ثم خلق فيه رؤية الله تعالى فكذا هاهنا الثاني: في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن، وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحًا، وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه مثل صوت داود حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يأخذ بأعناقها الثالث: أن الله سبحانه سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحًا لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته.
البحث الثاني:
قال صاحب الكشاف {يُسَبّحْنَ} في معنى مسبحات، فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات قلنا نعم، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث والتجدد، وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز، إذا ثبت هذا فنقول قوله: {يُسَبّحْنَ} يدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء وحالًا بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح.
البحث الثالث:
قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وقيل هما بمعنى، والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق.
البحث الرابع:
احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية، عن أم هانىء قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى، وقال: «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق» وعن طاووس عن ابن عباس قال: «هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق» وقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله: {يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق}.
الصفة السادسة: من صفات داود عليه السلام قوله تعالى: {والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله: {والطير} معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة، قال ابن عباس رضي الله عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله {فَإن قِيلَ} كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها، قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلًا حتى تعرف الله فتسبحه حينئذٍ، وكل ذلك كان معجزة لداود عليه السلام.
البحث الثاني: قال صاحب الكشاف قوله: {مَحْشُورَةً} في مقابلة {يُسَبّحْنَ} إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئًا بعد شيء، فلا جرم جيء به اسمًا لا فعلًا، وذلك أنه لو قيل وسخرنا الطير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور، والله أعلم.
البحث الثالث: قرئ {والطير مَحْشُورَةً} بالرفع.
الصفة السابعة: من صفات داود عليه السلام، قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، فهذه الأشياء أيضًا كانت ترجع إلى تسبيحاتها، والفرق بين هذه الصفة وبين ما قبلها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة وقيل الضمير في قوله: {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح.
الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي قويناه وقال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] وقيل شددنا على المبالغة، وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة، وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية، أما الأول فذكروا فيه وجهين الأول: روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله، وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفًا.
قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطانًا، وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه، فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها، فرأى داود في منامه.
أن الله يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فاحضره وأعلمه أن الله أمره بقتله، فقال المدعى عليه صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود.
فهذه الواقعة شددت ملكه، وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل.
الصفة التاسعة: قوله: {وآتيناه الحكمة} واعلم أنه تعالى قال: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضى الطاقة البشرية، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيًا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخ والنقض فكانت في غاية الإحكام، وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل النقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة.
الصفة العاشرة: قوله: {وَفَصل الخطاب} واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدهما: ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات وثانيها: التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان وثالثها: الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادرًا على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف، ولما بيّن الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: {وآتيناهُ الحكمة} أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقًا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانًا عظيمًا، والله أعلم، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضًا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرًا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام، والله أعلم، وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام. اهـ.